بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله ، ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
مفهوم الرزق وأنواعه
أيها الإخوة المؤمنون ؛ انطلاقًا من أنّ الإنسان مفْطورٌ على حبّ وُجوده ، وعلى سلامة وُجوده ، وعلى كمال وُجوده ، وعلى استمرار وُجوده ، في حياته شيئان خطيران يُعطيهما أهميّةً كبيرة ، ألا وهما أجلُه ورزْقُهُ ، وكلّ ما يفعلُه الإنسان الجاهل من انحرافات ، ومجاوزات ، وتعدِّياتٍ ، إنّما ينطلقُ بهذا حفاظًا على حياته ، وحفاظًا على رزقه ، فحُبّ الحياة والحِرْصُ على الرِّزْق وراء كلّ المعاصي والانحرافات ، ولكنّ المؤمن إذا أيْقن أنّ أمْر حياته بيَدِ الله عز وجل ، وأنّ أحدًا على وجه الأرض لا يستطيعُ أن يُنهي حياته ، ولا أن يمدّ في حياته ، وأنّ رزقه بيد الله وحده وأنّ أحدًا لا يستطيع أن يزيده ، ولا أن ينقصهُ ، إذا آمن الإنسان هذا الإيمان المبني على التأمّل ، والتدبّر بآيات القرآن ، انقطَعت علائقه مع بني البشر ، وارتبط مع خالق البشر ، قطع أملهُ من الناس ، وارتبط بربّ الناس ، لذلك وجدْتُ من الموضوعات الخطيرة في حياة الإنسان كائنًا من كان ، موضوع الرِّزق ، أحاديث كثيرة ، وآيات عديدة ، فالآيات قد تقترب من مئة آية ، كلّها تتحدّث عن الرّزق ، فإذا تأمّلنا ، وإذا تدبّرنا ، وإذا صدَّقنا ربّنا عز وجل ، كانت حياتنا حياةً أخرى ليس فيها تحاسُد ، ولا تباغض ، ولا عُدوان ، ولا طغيان ، ولا تجاوز ، الحياة التي يعيشها الناس من دون قِيَم ومن إيمان هي حياة الذئاب ، كلٌّ يتمنَّى أن يأخذ ما عند أخيه ظلمًا وبهتانًا ، أما إذا آمنتَ أنّ أجلك بيَدِ الله وحده ، وأنّ رزقك بيَدِ اله وحده ، وقد أمرك أن تسعى فسَعَيْت فهذا شأن المؤمن ، وهذا موضوع هذه الخطبة إن شاء الله تعالى ، وخطبٍ أخرى تتعلق بهذا الموضوع الدقيق الحساس .
يا أيها الإخوة الأكارم ؛ أوَّلُ وهْمٍ يتوهَّمه الناس في موضوع الرّزق أنَّ الرّزق هو المال ، وهذا وهْم مُعيب .
أوَّلاً : المال أحد أنواع الرّزق ، ولكنّ الصّحة رزق ، والعلم رزق ، وطاعة الله رزق ، والحكمة رزق ، والزوجة الصالحة رزق ، والزوجة العفيفة رزق ، والأولاد رزق ، والمأوى رزق ، والسمعة العطرة رزق ، فإذا توهَّمْت أنَّ الرّزق هو المال الذي يأتيك فهذا وهْمٌ خطير ، المال رزق ولكنّه ليس كلّ الرّزق ، فالمال أحد أنواع الرّزق ، وهو وسيلة وليس غايَة وهذه هي الحقيقة الأولى ؛ المال ليس هو الرّزق ، ولكنّه بعض الرّزق .
الحقيقة الثانية ؛ أنّ الرّزق هو ما انتفعْتَ به ، ولكنّ الذي لمْ تنتفِعْ به ليس رزقًا ، إنّه كسْبٌ ، وهذا فرْقٌ دقيق بين الرِّزق ، وبين الكسْب ، الرِّزق هو ما أكلْت فأفْنيْتَ ، الذي تستهلكُه ، أو لبِسْتَ فأبْليْت ، أو تصدَّقْت فأبْقَيْت ، وأما ما فاض عن أكلك ، وعن لبْسِكَ ، وعن أعمالك الصالحة فليس لك ، اكْتسبْتَهُ بِجُهدك ، ومحاسبٌ من قِبَل المولى جلّ وعلا ؛ كيف اكْتسبْتهُ ؟ ولكنّه ليس لك .
الميِّتُ حينما يموت تُرَفْرِفُ روحه فوق النَّعْش تقول : يا أهلي ويا ولدي جمعْتُ المال ممَّا حلّ وحرم ، فأنفقْتُهُ في حِلِّه وفي غير حِلِّه ، فالهناء لكم والتَّبِعَةُ عليّ ، يجبُ أن نفرّق بين الكسب وبين الرّزق ، ويجب أن نؤكِّد أنّ الرّزق هو كلّ ما انتفعْت به من مال ، أو من طعام ، أو من شرابٍ أو من مأوى ، أو من علمٍ ، أو من مهارةٍ ، أو من خبرة ، أو من صنعة ، أو من حرفةٍ ، أو من صحة ، أو من حواسّك ؛ هذه كلّها رزْقٌ ، وقد تسْتغربون أنَّ الرّزق كلّ ما انتفعْتَ به حلالاً كان أم حرامًا ! طيِّبًا أو خبيثًا ، مَشْروعًا أو غير مشروع ، لذلك جاء التكليف قال تعالى :
يا أيها الإخوة الأكارم ؛ أوَّلُ وهْمٍ يتوهَّمه الناس في موضوع الرّزق أنَّ الرّزق هو المال ، وهذا وهْم مُعيب .
أوَّلاً : المال أحد أنواع الرّزق ، ولكنّ الصّحة رزق ، والعلم رزق ، وطاعة الله رزق ، والحكمة رزق ، والزوجة الصالحة رزق ، والزوجة العفيفة رزق ، والأولاد رزق ، والمأوى رزق ، والسمعة العطرة رزق ، فإذا توهَّمْت أنَّ الرّزق هو المال الذي يأتيك فهذا وهْمٌ خطير ، المال رزق ولكنّه ليس كلّ الرّزق ، فالمال أحد أنواع الرّزق ، وهو وسيلة وليس غايَة وهذه هي الحقيقة الأولى ؛ المال ليس هو الرّزق ، ولكنّه بعض الرّزق .
الحقيقة الثانية ؛ أنّ الرّزق هو ما انتفعْتَ به ، ولكنّ الذي لمْ تنتفِعْ به ليس رزقًا ، إنّه كسْبٌ ، وهذا فرْقٌ دقيق بين الرِّزق ، وبين الكسْب ، الرِّزق هو ما أكلْت فأفْنيْتَ ، الذي تستهلكُه ، أو لبِسْتَ فأبْليْت ، أو تصدَّقْت فأبْقَيْت ، وأما ما فاض عن أكلك ، وعن لبْسِكَ ، وعن أعمالك الصالحة فليس لك ، اكْتسبْتَهُ بِجُهدك ، ومحاسبٌ من قِبَل المولى جلّ وعلا ؛ كيف اكْتسبْتهُ ؟ ولكنّه ليس لك .
الميِّتُ حينما يموت تُرَفْرِفُ روحه فوق النَّعْش تقول : يا أهلي ويا ولدي جمعْتُ المال ممَّا حلّ وحرم ، فأنفقْتُهُ في حِلِّه وفي غير حِلِّه ، فالهناء لكم والتَّبِعَةُ عليّ ، يجبُ أن نفرّق بين الكسب وبين الرّزق ، ويجب أن نؤكِّد أنّ الرّزق هو كلّ ما انتفعْت به من مال ، أو من طعام ، أو من شرابٍ أو من مأوى ، أو من علمٍ ، أو من مهارةٍ ، أو من خبرة ، أو من صنعة ، أو من حرفةٍ ، أو من صحة ، أو من حواسّك ؛ هذه كلّها رزْقٌ ، وقد تسْتغربون أنَّ الرّزق كلّ ما انتفعْتَ به حلالاً كان أم حرامًا ! طيِّبًا أو خبيثًا ، مَشْروعًا أو غير مشروع ، لذلك جاء التكليف قال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾
ومِنْ هذه للتبْعيض ، يعني الرّزق قد يكون حرامًا ، وقد يكون حلالاً ، قد يكون طيِّبًا ، وقد يكون خبيثًا ، قد يكون مَشْروعًا ، وقد يكون غير مشروع ، قد يكون حرامًا لذاته ، وقد يكون حرامًا لغيره ، فالخنزير حرامٌ لذاته ، ولكن أن تأكل طعامًا دون أن تدفعَ ثمنه ؛ هذا حرامٌ لا لأنّ الطعام محرّم ، بل لأنّ طريقة تناوُلك إيّاه محرَّمة .يا أيها الإخوة الأكارم ؛ موضوع دقيق وحسّاس ، ويتعلّق به كلّ إنسان ، وقد تستغربون ثانيَة أنّ تِسْعة أعشار المعاصي تأتي من كسْب الرّزق ، هي وراء كسْب الرّزق ، الحقيقة أنَّ أحدًا لا يعرفُ أين رزْقه ، قال بعض الشعراء :
أُغرِّبُ خلْف الرّزق وهو مُشرّق وأُقسِمُ لو شرّقت راح يُغرِّب
كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:
((إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب))
الرّزق يعرف صاحبه ، ولكنّ الإنسان ربما لا يعرف صاحبهُ ، ربما لا يعرف مكانه ولا زمانه ، ومن تعجَّل الشيء قبل أوانه عوقِبَ بِحِرمانه ، الرّزق يعرفك ، ويعرف بيتك ، ويعرف هويّتك ، ولكنّك لا تعرفهُ . عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
((لا ترضين أحدا بسخط الله ، ولا تحمدن أحدا على فضل الله ، ولا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله ، فان رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص ، ولا يرده عنك كراهة كاره ، وإن الله بقسطه وعدله جعل الروح والراحة في الرضا ، واليقين ، وجعل الهم والحزن في السخط والشك))
لذلك أخرج ابن حبان عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :
((إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب))
اختَرْ مهنةً شريفة ، اختَر مهنةً خيِّرَةً ، اخْتَر مهنةً معْطاءة ، اخْتَر مهنةً تنفعُ المسلمين ، اخْتر مهنةً يدعو لك المسلمون في ظهر الغيب ، جزاه الله عنّا خيرًا ، لقد نصحَنا ، لقد نفعتنا بضاعتهُ ، لقد نفعتنا خدماته ، لقد نفعنا طِبُّه ، لقد نفعنا علْمهُ . أخرج ابن حبان عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :
((إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب))
أيها الإخوة الأكارم ؛ الدعاء النبوي الشريف الذي ندْعوهُ دائمًا ، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبِطاعتك عن معصيَتك ، وبفضلك عمّن سواك ، مادُمْتُ قد بدأتُ خطبتي أنّ الرّزق ما انتفعْتَ به حلالاً كان أو حرامًا ، طيّبًا كان أو خبيثًا ، مَشروعًا كان أو غير مشروع ، إذًا الرّزق مقدَّر ، وأما طريقةُ وُصوله إليك فباختيارك ، قال تعالى
﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾
ما دام هذا الفم يتحرّك فلهُ رزقٌ عند الله عز وجل ، والرّزق مضمون ومَقسوم ، مضمون شيءٌ ، ومقسوم شيءٌ آخر ، أما أنّه مقسوم فلِعَوامِلَ كثيرة ، نأتي عليها في خطبة قادمة ، ما عوامل الزيادة ؟ وما عوامل النقصان ؟ أما أنّه مضمون ، قال تعالى :
﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾
ولكنّ ضَعف الإيمان يسْتوجِبُ الخضوع للشيطان ، وضَعف الإيمان يحمِلُ الإنسان على أن يصدِّق الشيطان ، الشيطان قال عنه جلّ جلاله :
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
إنّ الشيطان يعدكم الفقر ، إنْ لم تسْتجِب لتنفيذ رغبة من هو فوقك ، قد يلغي عملك ، قد يصرفُك من عملك ، قد يقطع رزقك ، قد يجوع أولادك ، هذا كلام الشيطان ، حينما تقع في صراع بين طاعة الرحمن ، وبين طاعة الشيطان وأولياء الشيطان ، والعامل المرجّح هو الرِّزْق هنا المشكلة ، إن كُنتَ قويّ الإيمان صدَّقتَ الرحمن ، وإن كنت ضعيف الإيمان اسْتجبْت للشيطان، الرحمن ضَمِنَ لنا الرّزق ، قال تعالى :
﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾
والشيطان يعدكم الفقر ، يُخَوِّفك إذا أنفقْت ، يُخوّفك إذا قلتَ كلمة الحقّ ، مع أنّ كلمة الحقّ كما قال عليه الصلاة والسلام : لا تقطعُ رزقًا ، ولا تقرِّبُ أجلاً ، هذا هو الإيمان ؛ أنْ تؤمن أنّ أجلكَ بيَدِ الله تعالى ، ليس في الأرض كلّها قوَّة تستطيعُ أن تنهي أجلكَ ، وليس في الأرض كلّها قوَّةٌ تستطيع أن تقطع رزقك .أيها الإخوة الأكارم ؛ كلّما ضعف الإيمان قوي الشيطان ، وكلّما قوي الإيمان ضعف الشيطان ، وكأنّ الشيطان مُشْعِرٌ بإيمانك فكلّما اسْتجبْت له كان ذلك ضعْف إيمانك ، وكلّما رفضْت تخويفه ووسْوَسَتَهُ كان ذلك دليل قوّة إيمانك .
أيها الإخوة الأكارم ؛ من الآيات الدقيقة قوله تعالى :
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾
وخلق فعل ماضي ، لم يقل يرزقكم ، تقريبًا للمعنى ، وتيْسيرًا له ، لو أنَّ أبًا أرْسل ابنه إلى بلدٍ أجنبي ، وقال له : يا بنيّ أنا من حينٍ لآخر أرسِلُ لك نفقاتك ، هذا الابن على شيءٍ من القلق ، لو أنّ أبي لم يرْسل ، ماذا أفعل ؟ كيف آكل ؟ أما لو أنّ هذا الأب قال لابنه : اذْهب ، وهذه نفقتك عن أربعة سنوات أوْدَعتها لك في مكانك الفلاني ، وهذا هو معنى خلقكم ، ثمّ رزقكم .أيها الإخوة الأكارم ؛ من خرافات هذا العصر ، ومن أوهام هذا العصر أنَّ العلم سبيل الرّزق ! لا ، العلم وفّر رفاهيَة الإنسان ، لو أنَّ الله عز وجل حجبَ الماء من السماء ، مهما تكن المشاريع لإيصال المياه إلى البيوت راقِيَة والأجهزة حديثة ، والتحكّم جيّد ، والمراقبة جيِّدة ، لكن لا يوجد ماء ، لا بدّ من تقنين المياه ، لذا العلم لا يأتي بالرّزق ، ولكن يُيَسِّرُ سبلهُ ، بالعلم نتفنَّن في صناعة الخبز ، ولكن ما لم يخلق الله القمح ، ما قيمة هذا التّفنن؟ وما قيمة هذه التقنيَة الحديثة في صناعة الخبز ؟ العلم أوْصَلَ المياه إلى البيوت ، ولكن إن لم تكن المياه ، قال تعالى :
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾
لا ينبغي أن نظنّ أنّ العلم هو سبيل الرّزق ، لا ؛ لولا أنّ الله عز وجل أوْدَعَ في الأرض الخيرات ، من مِنّا يصدّق أنَّ الله جلّ جلاله حينما قال مخاطبًا موسى عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام :
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾
إشارة من الله إلى أنّ هذه الأرض وْدَعَ الله في باطنها ثرواتِ وثرواتٍ لا يعلمها إلا الله ، كلّما طالعتنا الأنباء يكتشفون أنّ هذا القطر يعوم على مياهٍ عذبة ، وأنّ هذا القطر يعوم على حقلٍ بتروليّ مليار برميل مثلاً ، قال تعالى :
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾
العلم يُيَسّر لنا كشف الرّزق ، والوُصول إليه ، واستخدامه ، ولكنّ العلم لا يخلق الرّزق ، لولا أنّ الله عز وجل شقّ السماء بالمطر ، وشقّ الأرض بالنبات لمُتنا جوعًا ، وهناك بلادٌ تعاني من الجفاف ، وهناك بلادٌ تعاني من الفيضانات ، معنى ذلك أنّ الرّزق بيَدِ الله وحده ، قال تعالى
﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾
في القرآن كلّه لا توجد إلا هذه الآية ، لا يتحقّق شيءٌ إلا بِتَوفيق الله تعالى .
الرزق المادي والرزق الروحي
أيها الإخوة الأكارم ؛ عَوْد على بدء ، انطلقنا من أوّل الخطبة على أنّ الرّزق ما انتفِعَ به ، لذلك يقسَّم الرّزق إلى قسمين ، رزق ماديّ هو الطعام هو ماء الأمطار ، الشراب ، الصّحة ، الأجهزة ، الأعضاء ، الحواس ، المأوى ، الثِّياب ، هذا كلّه رزقٌ ماديّ ، ولكنّ الرّزق الأخْطر منه هو رزق القِيَم ، أو الرّزق الروحي ، الرّزق المادي ينتهي عند الموت مهما كان وفيرًا ، ولكنّ رزْق القِيَم ، ورزق الروح ، هو الرّزق الذي يبقى إلى أبد الآبدين ، سوف آتيكم بالدليل ، عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال : أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((يقول ابن آدم : مالي مالي وهل لك يا ابن آدم إلا ما أكلْت فأفنيْت ، أو لبست فأبليتَ أو تصدّقت فأبْقَيْت))
صدقتك من رزقك لأنَّك تنتفعُ بها بعد الموت ، إذًا ليس الرّزق هو المال فقط ، ولا الصحّة فقط ، ولا الزوجة فقط ، ولا البيت فقط ، ولا سلامة الأجهزة فقط ، ولكنّ الرّزق هو ما انتفعْتَ به بعد الموت ، بل إنّ أخطر أنواع الرّزق هو الذي ينفعك بعد الموت .أيها الإخوة الأكارم ، آية أخرى دقيقة تؤكِّد أنّ الرّزق هو رزق الأرواح ، قال تعالى في سورة الواقعة :
﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾
أنت لك رزقٌ من الله هو رزق العلم ، رزق السكينة ، رزق الطمأنينة ، رزق الفرح ، رزق اليقين برحمة الله عز وجل ، رزق الإقبال على الله ، رزق تلقّي تجليّات الله عز وجل ، رزق العلم ، حينما كذَّبْت بهذا الدِّين ، وكذّبْت بهذا القرآن حُرِمْت من هذا الرّزق ، قال تعالى :
﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾
ماذا قال سيّدنا موسى عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام ؟ قال تعالى :
﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾
هذا هو الرّزق ، العمل الصالح من أجل أنواع الرّزق ، لماذا ؟ لأنَّه ينفعُكَ إلى أبد الآبدين وادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون ، يعني إذا ذهبْت إلى بلدٍ غربي ، ومعك الألوفٌ من العملة السوريّة ، لا تقبل إلا بالعملة المتداولة في ذاك البلد ، كذلك الدار الآخرة عملتها المتداولة العمل الصالح ، قال تعالى :
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾
لذلك يجب أن تؤمن أنّ أغنى الأغنياء في الدنيا هو الذي أكرمهُ الله بالأعمال الصالحة ، لأنَّها النقد المتداول في الآخرة ، إنسانٌ ذهب إلى بلد غربي ، ولْيَكن بريطانيا ، وليس معه الجنيهات ، معه عملات أخرى ، كلّها مرفوضة ، جائع ، يتمنَّى شطيرة يأكلها ، هذه العملات لا نقبلها ، فالإنسان في الدنيا قد يسكن بيتًا فخما ، قد يملك الآلاف المؤلّفة ، قد يمْلكُ كلّ وسائل الراحة فإذا جاء الدار الآخرة ، يقول : بيتي ! مرفوض ، أهلي ، مركبتي ، معملي ، هذه عملاتٌ مرفوضة ، أين العمل الصالح ؟ لذلك سيّدنا علي يقول : (الغنى والفقر بعد العرض على الله) ، أنت غنيّ بما كلّ ما في هذه الكلمة من معنى إذا أجرى الله الخير على يديك ، إذا جعلك مفتاحًا للخير ، مغلاقًا للشرّ ، إذا جعل عملك مشروعًا ، إذا جعل عملك فيه نفْعٌ للمسلمين .يا أيها الإخوة الأكارم ؛ من منَّا يصدّق أنّ الحضارات تُبنى بالقِيَم ، وأنّه إذا انهارَت القِيَم انهارَت الحضارات ، حينما تنتهي القِيَمُ في أمَّةٍ ينتهي وُجود هذه الأمَّة ، والتاريخ يدلّ على ذلك .
أيها الإخوة الأكارم ؛ حينما تنعدم القِيَمُ في بلدٍ ، ويأكل القويّ الضعيف ، تنقطع الأرزاق ، ويدخل الناس في متاهات ، وفي حروبٍ أهليّة ، وفي قتلٍ وسلبٍ ، ونهبٍ ، بلادٌ تعاني من آلام الجوع ، يموت كل يوم كذا إنسان جوعًا ، السبب انعدام القِيَم ، حينما تنعدم القِيَم تنهار الأمم ، حينما تنهدم القيَم تنهار الحضارات ، أمثلةٌ لا أريد أن أُثني على أصحابها ، لكن بعض البلاد لا تملكُ أيّة ثروَة ، لا طبيعيّة ، ولا غير طبيعيّة ، ولا فرجات ، ولا معادن ولا بترول ، ولا شيء ، وهي الآن تتربّع على عرش الدول الغنيّة في العالم ، بالعلم الذي اتَّسم أهلها به ، وبالدّأب والجهد ، ولو بالموازين الماديّة ، وأُمَمٌ تعيشُ على ثرواتٍ طائلة ، وهي تسْتوردُ القمح ! إذًا القِيَم هي التي تبني ، وانهيارُ القِيَم هو الذي يهدم .
يُرْوَى أنّ هارون الرشيد أهدى ملِكَ فرنسا ساعةً تعمل على الماء ، فاجتمعَ علماء فرنسا حول هذه الساعة مدهوشين ، حتى قالوا قوْلةً واحدة : إنّ فيها شيطان ، نظرًا لِجَهلهم ، نحن أمَّة حينما تمسَّكنا بالقِيَم اسْتخلفنا الله في الأرض ، قال تعالى :
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾
فحينما تسود القيَم تسود الأمم ، وحينما تنهار القيَم تنهار الحضارات .أيها الإخوة الأكارم ؛ أريد أن أضع بين أيديكم هذه الحقيقة ، وهي حقيقة رياضيّة ، وهي حقيقة لما بدأتُ به في أوّل الخطبة ؛ ليس الرّزق هو المال فالذّكاء رزق ، وهو من أكبر النّعم على الإنسان ، والوسامة رزق ، سلامة الأعضاء ، والسلامة رزق ، والحكمة رزق ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا ، وبالحكمة تجلب المال ، وبالحُمق تُبدّد المال ، أنت بالحكمة تكسبُ ثقة الناس ، وبالحُمق تُبدّد هذه الثّقة .
﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾
فضل الله على الناس بالرزق
أيها الإخوة ؛ قال تعالى :
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾
اسأل نفسك هذا السؤال ، اُكتُب الحظوظ التي أكرمك الله بها ، واجعَل في مقدّمتها حظّ الإيمان ، وحظّ العرفان ، وحظّ معرفة الله ، وحظّ الالتزام على أمر الله ، وحظّ السّمعة الحسنة ، وحظّ طيبِ الرّزق ، وحظّ العمل الصالح ، هذا كلّه من الرّزق ، قال بعض المفسّرين في قوله تعالى :
﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾
قد يظنّ أنّ الإنسان أوّل وهلة أنّ الله جعل هذا فقيرًا ، وهذا غنيًّا ! لا ، الرّزق كما اتَّفقنا على تعريفه أوّل الخطبة ما انتفعْت به قد يُعطيك الله المال ، وقد تحتاج إلى من يعلّم ابنك الرياضيات ، فهذا الذي تعلّم الرياضيات فضَّله الله عليه ، وأنت محتاجٌ إليه ، وقد يؤتيك الله المال وقد يؤتي أحدًا آخر قوَّة في عضلاته ، فإن احتجْتَ إلى نقل صندوقٍ حديدي أنت في حاجةٍ إليه ، وقد فضّله الله عليك ، إذًا حينما أعطى الله أُناسًا قوَّةً أعطى أناسًا مالاً ، أعطى أُناسًا خِبرةً ، أعطى أُناسًا علمًا ، لِيَجعلنا مُحتاجين اضْطرارًا إلى بعضنا ، لِيَقوم المجتمع البشري على التعاوُن ، وعلى تبادل الخبرات ، والمصالح والمنافع ، إذًا فضَّل بعضكم ، اِحْتَجْ إلى المرء تَكُن أسيرهُ ، اسْتَغْنِ عنه تكن نظيرهُ ، أحْسِن إليه تكن أميرهُ ، فأنت محتاجٌ إلى ثياب تلبسها ، وإلى خيّاط يخيط لك الثّياب ، أنت محتاجٌ إلى من يهذّب شعرك ، أنت محتاجٌ إلى من يصنعُ لك حاجاتك ، أنت محتاج إلى مئة مئة ألف حاجة .والله قد يعطيك إتقان حجةٍ واحدة تعفّ بها ، هذا تصميم الخلق ، وتخطيط المجتمع البشري ، والله فضَّل بعضكم على بعضٍ في الرّزق ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام :
((خيركم من أكل من عمل يده ، واليد العليا خير من اليد السفلى ...))
لكنّ الموضوع الدقيق الذي قد يسأله أحدكم سؤالاً بديهيًّا ما الذي يزيد الرّزق ، وما الذي يقلّلُه ؟ لا شكّ أنّ الله عز وجل ضمن لكلّ واحد رزقه ، ولكنّ الرزق مضمون ومقسوم ، ضمِن رزق فلان وقسمهُ له قليلاً ، وضمن رزق فلان ، وقسمهُ له وفيرًا ، فما العوامل التي تزيد في الرزق ؟ وما العوامل التي تضعفها ؟ قال تعالى :
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾
هذه مقولةٌ يقولها الإنسان ، ولكن ما حكم الشريعة في هذه المقولة ؟ حكم الشريعة القرآنيّة: كَلاَّ ! ليس عطائي إكرامًا ، ولا منعي حرمانًا ، إنّ عطائي ابتلاء ، وحرماني بلاء ، أما إذا أنفقْت هذا الرّزق في طاعة الله انقلب إلى نعمة ، الرّزق حيادي ، وعطاءٌ حيادي ، إذا أُنفقَ في طاعة الله انقلبَ إلى نعمة ينتفع بها بعد الموت ، صار عملاً صالحًا ، وإذا أنفق في معصيَة الله أصبح نقمةً تهلكُ في الدنيا ، وفي الآخرة ، لذلك وفرة المال ليس رزقًا بالمعنى الشائع ، ولكنّه امتحان وابتلاء ، أما إذا أنفق المال في طاعة الله انقلب إلى رحمة ، وإلى عطاءٍ حقيقيّ ، هذه الموضوعات وغيرها إن شاء الله تعالى نُعالجها في خطبة أخرى لأنّ الموضوع خطير ، وجدير بكلّ اهتمام ، وما منّا من أحد إلا وهو متعلّق به شاء أم أبى ، فإن فهمهُ فهمًا مغلوطًا ، وإن دخل عليه الأوهام ، وإن غابَت عليه الحقائق شقيَ في الدنيا والآخرة ، وإن استبصر بِنور الله عز وجل ، ورأى الحقّ حقًّا فاتَّبعَه ، والباطل باطلاً فاجْتنبه ، فهذا من فضل الله عليه ، كعناوين للخطبة القادمة ، الأمانة تجلب الرّزق ، والأمانة غنًى ، وإتقان العمل يزيد في الرّزق ، صلة الرحم تزيد في الرّزق ، برّ الوالدين يزيد في الرّزق ، والاستقامة على أمر الله تزيد في الرّزق ، قال تعالى :
﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً﴾
قال تعالى :
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
هذه الموضوعات إن شاء الله نُرجؤُها إلى خطبة قادمة ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم ، فيا فوز المستغفرين .
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين .
لا تنسي مشاركة الرابط ولك الاجر باذن الله
المصدر النابلسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق